Adonis Diaries

Posts Tagged ‘جبر ضومط

Who is Rafic Makdessi?

رفيق المقدسي النهضوي المغمور*

توطئة:استئذان رهباني

قبل أن أقرأ المحاضرة ،ارى من واجبي الاعتذار من الصديق الياس جرجوس بسبب تعديلي لعنوانها الذي أمليته عليه، وهو “رفيق المقدسي العبقري المغمور” حيث وضعت صفة “النهضوي” مكان صفة “العبقري” لأنها أدق وصفا لمضمون نتاجه الذي تسنى لي الاطلاع عليه.

صحيح اني استأذنته،ولكن ليس قبل كتابة المحاضرة.ومن حسن حظي انه لم يشبهني بالراهب الذي يستأذن رئيسه في صافيتا للسماح له بالذهاب الى مرمريتا،فيصل الى عين الراهب قبل ان يبت الريس بطلب مرؤوسه.

1_اسم غير مستعار

ولنبدأ من النهاية.حين عثرت على مقالاته السبع في مجلة “الجمهور” البيروتية لصاحبها ورئيس تحريرها ميشال أبو شهلا المنشورة بين أواخر ت2 1936 وأوائل 1938،سألت صديقي الصافتلي الباحث الدكتور يوسف قزما خوري الذي كان يرأس مكتبة الجامعة الأميركانية في بيروت_لن أقول الأميركية احتراما للعلامة الصافتلي جبر ضومط الذي نحت مصطلح أميركانيا كمرادف للولايات المتحدة وتمييزا لها عن باقي القارة الأميركية_عن رفيق المقدسي الذي كان يذيل مقالاته في ثلاثينات القرن الماضي باسمين:اسمه واسم مدينته صافيتا؟

فأجابني :لا يوجد كاتب كبير في صافيتا بهذا الاسم.ولما كانت مقالاته تؤكد انه كاتب من العيار الذهبي 24 ،فقد افترضت أحد أمرين:اما انه كاتب مغمور ،أو هو كاتب متواضع يختبئ وراء اسم مستعار.لذلك، عندما تلفن لي الباحث الصديق الياس جرجوس،وطلب مني القاء محاضرة وترك لي حرية انتقاء عنوانها وموضوعها،

سارعت الى القول ،مخافة أن يغير رأيه، بأن محاضرتي ستتمحور على الكاتب الصافتلي العبقري المغمور رفيق المقدسي.صحيح انه وافق على اقتراحي ،ولكن ليس بالأجماع،بدليل اني قرأت بين سطور مخابرته الهاتفية،عدم معرفته بابن مدينته،أضافة الى رغبته بان أحاضر عن جبر ضومط باعتبار اني “عديله” في الكتابة عن رفيق جرجي زيدان في رحلته البحرية الى وطن شكسبير في أوائل ثمانينات القرن التاسع عشر.

2_ سيرة ومسيرة

طبعا،هذا لا يعني ان رفيق المقدسي غير معلوم تماما في صافيتا وعموم الجمهورية السورية.فالدكتور جورح جبور كان من طلابه في اوائل خمسينات القرن الماضي،ويعرف الكثير عن سيرته .لذلك ،

حين قرأ الخبر الخاص بالمحاضرة،اتصل بالصديق الزغرتاوي المشترك سركيس أبو زيد،لافتا النظر الى ان لرفيق المقدسي كتابا بعنوان “الصحافة اليومية”ومقترحا تغيير عنوان محاضرتي ليصبح: “الاستاذ رفيق المقدسي :رائد في دراسة علم الصحافة”.ثم عاد وكرر طلبه خلال مكالمتي الهاتفية الطويلة معه.وعندما اعتذرت عن الموافقة على اقتراحه لأن مضمون مقالات “الجمهور” تؤكد انه رائد في علمي السياسة والأجتماع أيضا ،

طلب مني أن أنوه باقتراحه في سياق المحاضرة.وبالمناسبة،فقد أجابني خلال الاتصال الهاتفي على مجموعة أسئلة تتناول السيرة المقدسية ،ألخصها بالعبارات التالية،خصوصا وان المحاضرة عن أستاذه يجب ان تتناول سيرته:كان كاريزماتيا،ونافس أديب الطيار على زعامة صافيتا.لا أعلم مولده بالضبط،ولكني أرجح ،

من خلال تدريسه لي في مطلع 1950 انه كان في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره.انتمى الى الحزب السوري القومي،ولكنه انسحب منه اثر خلاف مع رئيسه.خاض الانتخابات النيابية ،ولم ينجح.درس الانكليزية بالمراسلة ،فأتقنها،ليصبح مترجما في الاذاعةوالتلفزيون.نشر مقالات كثيرة في الصحف الدمشقية خلال خمسينات القرن الماضي،ومنها “الأيام” و”النصر”.لم يتزوج.وهو عم الشاعرة ليلى المقدسي،والباحث فايز المقدسي الذي رحل في باريس منذ أسابيع.اشتهر بجهاده ضد الاحتلال الفرنسي.

3_امن بعقيدته ولم ينضو في حزبه

ولما كانت اولى مقالات الجمهور،منشورة في العام 1936،ناهيك بمقالة “رأي في الأدب”المنشورة في جريدة “الأحرار” البيروتية بتاريخ 18 كانون الأول 1932،فقد عدت الى ابن أخيه فؤاد للحصول على تاريخ دقيق لمولد رفيق،لأن مستوى المقالات شكلا ومضمونا يقتضي ان يكون كاتبها قد تخطى الخامسة والعشرين.وأفادني،بعد استشارة ابنة عمه الشاعرة ليلى وابن عمه فؤاد،وارتكازا على ان والده من مواليد 1915،أن عمه رفيق الذي يكبر والده بحوالى 5سنين، هو من مواليد 1908 كحد أدنى و1910 كحد أقصى .وهذا تحديد معقول،حيث كان في الثانية او الاربعة والعشرين حين كتب مقال “الاحرار”،وفي السادسة او الثامنة والعشرين حين كتب باكورة مقالات ”الجمهور”..أما وفاته،فقد حددها في العام 1964.
تبقى علاقته بالحزب القومي ،فاني أجزم من خلال اطلاعي على تاريخ الحزب ومذكرات بعض أركانه القدامى وبخاصة جبران جريج وعبدالله قبرصي،انه لم ينتم اليه .ويعزز رأيي الامين لبيب ناصيف الذي أكد لي منذ يومين،انه لم يقرأ اسم رفيق المقدسي في الارشيف الحزبي الذي بحوزته . ولكني أرجح،بأن رفيق المقدسي كان مطلعا على عقيدة سعاده ومؤمنا بمبادئها الاصلاحية والاساسية،بدليل مقاله “طريق الخلاص” المنشور في “الجمهور” بتاريخ 2 اب 1937،أي بعد ثمانية أشهر و18 يوما من زيارة الزعيم لصافيتا والقائه خطابا فيها.ومن هذه الناحية العقدية الاساسية يمكن القول،أنه لو اقسم اليمين، لاستحق تسمية رفيق squared التي أطلقها سعاده على الشاعر والصحفي القومي الاجتماعي الرفيق رفيق المعلوف.

4_النظام والتنظيم

ولنقلب الصفحة على نهضوية رفيق المقدسي.
تحت عنوان “طريق الخلاص في ظلال روح القومية” استهل الكاتب كلامه برسم هذا المشهد المأساوي لأمته الناجم عن17 سنة من الاحتلال الفرنسي :”تتصاعد اليوم أصوات الشكوى والتذمر داوية كجلجلة رعد قاصف داعية الى النجاة والخلاص من أوضاعنا السياسية المتداعية الأركان،وأنظمتنا الاجتماعية المتقلقلة ،وحياتنا الاقتصادية التي تتمرغ في المستنقعات والاوحال وهي مشدودة بجنزير من حديد الى عملة أجنبية_ الفرنك_ان ماتت متنا،وقد غدت سوريا،من شواطئ دجلة الى البحر السوري في بحران من الفوضى عميق الغور بعيد الاماد ،فمن فوضى الأخلاق الى فوضى الأزياء الى فوضى الاداب الى فوضى العلوم الى انواع الفوضى على اطلاقها..حتى غدت بلادنا عنوان الفوضى ،وغدت الفوضى رمزا لبلادنا”.أضاف منتقلا الى “عدو الفوضى” أي النظام،حيث يلتقي في ظله جهد الفرد بالفرد وجهد الجماعة بالجماعة،التقاء الموجة بالموجة،ومن جميع هذه الجهود والأمواج،يتألف الجهد الأكبر والموجة الكبرى التي تظهر نشاط الأمة ونبوغها واستعدادها للحياة”.
ويميز الكاتب بين المنظمة القومية والمنظمات الاخرى التي “يقتصر النظام فيها على لبس الثياب والقمصان بلون واحد وشكل واحد أو بمد الذراع الى الأمام أو برفعه على الصدر .فللجرذان لون واحد وأذناب متشابهة وهي تتحرك وتمشي وتركض “.ويختم بربط النظام بالمبادئ في الحركة التي شقت طريق الخلاص ،فيقول :”أما النظام الذي يكفل للأمة الانسجام والسير في طريق المجد القومي فهو النظام الذي تحركه مبادئ تبعث النشوة في القلوب والفرح في الصدور والارتقاء في الأرواح،

هو النظام الذي يحمل في كفه كأس النجاة في ارتكازه على القومية السورية ،وفي تقريره فصل الدين عن الدولة،ومحاربة الاقطاع الذي يمتص دماء المساكين والبؤساء من أبناء الأمة”.وقد وردت في المقال عبارة “النظام والتنظيم” ،وهي العبارة التي تفرد سعاده في تداولها في أدبياته،ومنها مقال “النظام” الذي نشره في مجلة “الجمهور” في 2 كانون الأول 1937,اي قبل مقال المقدسي بثلاثة أشهر.
وثمة امر اخر يجدر التنويه به،وهو ان الكاتب في مقاله السابق “الطموح والعبقرية وكيف يكونان في بلاد المجد والعطاء” المنشور في “الجمهور” بتاريخ 26 تموز 1937 ،قد ختمه بهذه العبارة :”في العدد القادم :طريق الخلاص في ظلال الزوبعة”.وفي حين عدل العنوان ليصبح “طريق الخلاص في ظلال روح القومية” أكد في متن المقال ان طريق الخلاص “قريب الى الذين يتنفسون زوابع هذه النهضات الجبارة اذ تهب في صدورهم روح القومية الجديدة في ظل النظام”.

5_جيل جديد يعانق المثل العليا

وكان المقدسي قد ربط مقولتي الفوضى والنظام بالأدب الحديث في ختام مقاله “رأي في الأدب”الذي نشره في جريدة “الأحرار” البيروتية بتاريخ 17 كانون الأول 1932،اي بعد أقل من عام من تأسيس سعاده للحزب السوري القومي.يقول الكاتب: “لا يترك الأدب تعريف نواحي الحياة ووصف مظاهر الوجود في الطبيعة والسماء الا ليصل بك في نهاية الأمر الى شيء أسمى وأبرك من الوصف والحديث،وذلك الشيء هو الابتكار في عالم الاراء والفنون واضافة مادة جديدة الى خزانة الانسانية الواسعة والطامحة نحو الكمال في مسيرها الدائم لمعانقة المثل الأعلى في الحياة.ومن هنا ندرك قيمة الأدب ادراكا صحيحا وهو يتناول كشف حقائق الحياة في المجتمع والكون والانسان،والتي لو خلت من الأدب ،يسود العالم نظام الفوضى ، اذا كان للفوضى نظام”.

وختم بهذه العبارة التجديدية النهضوية السعادية “لنتخلص اذن من الفوضى ولنقبل نحو النظام ولنفهم الأدب على حقيقته ليتأتى لنا جيل جديد وحياة جديدة”.والصافطلي هنا يلتقي مع الشويري في مفهومه للادب الجديد والانسان الجديد،من غير ان يكون قد سمع منه أو قرأ له مبادئ عقيدته غير المشروحة في ذلك الوقت،خصوصا وان الحزب كان جنينا وسريا،واسمه لم يرد في لائحة الصحابيين الذين أوردت أسماءهم في كتابي “محاكمة انطون سعاده ” نقلا عن وثائق الخارجية الفرنسية،اضافة الى ما ذكره سعاده وجريج وقبرصي واخرون من أسماء رواد الحركة القومية الاجتماعية.

6_جراح شجاع لاستئصال أشواك الجهل

ولكن المقدسي لم يكن غريبا عن أورشليم سعاده،حين نشر مقاله “في عهد الاستقلال الحرية” في مجلة أبو شهلا بتاريخ 5 تشرين الثاني 1936،حيث يفترض انه قرأ الصحف البيروتية والدمشقية والفلسطينية التي نشرت دفاعه في المحكمة المختلطة التي ترأسها افرنسي ،ونفى فيه تهمة الشوفينية chauvinism التي وجهها اليه المدعي العام ،وهو افرنسي أيضا.

قال سعاده في دفاعه الهجومي ان حزبه الهادف الى تحقيق الاستقلال والحرية،قد أسس على ضوء نهج أيجابي وهو محبته لأمته ووطنه وليس بدافع من نهج سلبي يتمحور على كره الاجنبي.

واذا عدنا الى المقال،نقرأ تلميحا لسعاده من غير تصريح باسمه،حيث يقول المقدسي “المجتمع السوري مجتمع معتل الصدر والرأس والقلب والعين،وهذه العلل المزمنة والأدواء المتأصلة لا تشفيها الألفاظ المنمقة والكلمات المعسولة،كقولك ان أبناء الوطن اخوان،وان الدين لله والوطن للجميع ،الى اخر هذه القائمة الطويلة من الألفاظ التي ابتكرتها أدمغة السياسيين.فهي أشبه ما تكون بهذه الفقاقيع الخفية التي تطفو على سطح الماء،ويبقى التيار من تحتها دافقا في اتجاهه المعهود،فهي أضعف من أن تكون قادرة على تحويل مجراه أو رج أعماقه.لأن الكلام الشفاف لا يقرر الاتجاهات الحاسمة في تاريخ الأمم،ولا يغير المجرى أو يرج الأعماق. انما الذي يقدر أن يخلق الاتجاهات الحاسمة ويقلق الأعماق هو القوة الهدامة التي تدك هذه الأوضاع الاجتماعية القائمة في البلاد ،وتنسفها من الأساس،وهي العملية الجراحية التي يتولاها جراح شجاع يحمل بيده سكينا حادة ينزع بها الأشواك المسننة التي غرستها أصابع الجهل والغباوة في فراش هذا الطفل: الاستقلال ،لكي يعيش سليم البنية مفتول العضل وردي الخدود،يستحم في بحر من النور ويتنفس بملء رئتيه هذه النسمات التي تثور على شواطئ المتوسط “.

7_ديناميت العلمانية يدك قلاع الطائفية

وتوقف الكاتب امام سرطان الطائفية ،فقال ان المشروع النهضوي العتيد سيقضي على “الطائفية من البلاد ،لتمتزج جميع الطوائف والملل بعضها ببعض كما تمتزج الموجة في الموجة،وتنحل هذه الفوارق الدينية المذهبية التي تعشش في جسم الأمة كما تعشش الجراثيم في جسم المريض،فلا يعود هناك مسيحي الا في الكنيسة للقيام بالمراسيم المعتادة، ولا مسلم الا في الجامع لأداء فريضة الصلاة،فيمحى كل أثر للدين بارز في حياة الفرد والجماعة،ويشرق على البلاد عهد جديد فيه غبطة لم تغمر قلوبنا بعد،وفيه نشوة رائعة تحيي الذين يحبون الحياة الحرة”.

أضاف وكأنه في العام2019 وليس في العام 1936 “في اعتقادي ان الحنين الى اوضاع جديدة في عالم الجماعات قد تغلغل في دم كل رجل مثقف وملأ قلبه،لأن الطبقات الراقيةبأسرها قد برمت بهذا الثوب النتن الذي يجعل من بلادنا معرضا للأديان وللنعرات الدينية وللأزياء الدينية ولكل ما يبرهن على عقلية ترجع الى أزمنة ما قبل التاريخ يوم كان الدين هو المحور الذي تدور حواليه أغراض الحياة ومقاصدها..وقد زال هذا الاعتقاد الخاطئ في بعض الأمم التي عرفت قيمة النهضات الاجتماعية فوضعت لغم الديناميت في زاوية المجتمع القديم ودكته دكا”.

أكتفي بهذا القدر من الاضاءة على مقالات الزميل رفيق المقدسي،لأنتقل الى كتابه “فن الصحافة” الذي كتبه بعد 30 سنة من مقالته المنشورة في “الاحرار” ,وربع قرن من مقالاته في “الجمهور”.فهل كان تنظيره لكيفية كتابة المقال الصحفي،متماهيا مع النهج الذي اتبعه في مقالات “الجمهور” ومقال “الاحرار”؟

قبل الاجابة ،بل ومن أجل اجابة دقيقة،لنقرأ _خلافا للموضة الدارجة التي يكتب فيها معظم الزملاء عن الكتب من غير ان يقرأوها _ كتاب المقدسي “فن الصحافة”، الوحيد ،الصغير الحجم،والقليل الصفحات.

8_الصحافة واجب وطني والتزام خلقي

تحت عنوان رئيسي “الصحافة اليومية”_لن أقول صحافة_بكسر الصاد_ ولو علق البساتنة واليازجيون مشنقتي، لأني مع الخطأ الشائع وضد الصواب القاموسي _وعنوان فرعي “توطئة”،يؤكد المؤلف ان” الصحافة اليومية لم تدرس حتى الان دراسة علمية شاملة في لغتنا ،كما انها لم تدرس دراسة موضوعية مستفيضة في اللغات الأجنبية الا في الاونة الأخيرة”.

واذ يبدي استعداده لدرسها،يستدرك ليقول انه سيدرسها “لا كمهنة وحرفة فحسب،بل كواجب وطني وفرض أدبي ،والتزام خلقي يمليه على الكاتب مبدؤه الراسخ وعقيدته المتينةخدمة لأمته ووطنه وللانسانية جمعاء”.وبعد ان يشرح مهمة الصحافة ،والصحافة والديمقراطية، والصحافة والدكتاتورية، والرشوة،يلخص الفصل الأول بما يلي :“الصحافة اليومية هي عيون الشعب التي ترى ،واذانه التي تسمع،فعلينا أن نجعل هذه العيون صحيحة جميلة يشع منها الصدق والذكاء،وأن نجعل من هذه الاذان الات لاقطة،مرهفة الحس،تأخذ الأنباء عن قرب وعن بعد ،لتردها للشعب نورا وهدى”.

9_لا لليبوسة والخيال ونعم للسلاسة والجمال

ينتقل في الفصل الثاني الى الافتتاحية او “المقال الرئيسي” على حد تعبيره،فينصح كاتبه تجنب الخيال من جهة، واليبوسة من جهة أخرى،اذ يشترط فيه “الجمال مع البساطة وقوة الحجة مع السلاسة ودقة التعبير مع وضوح الاراء والتجرد عن الهوى الشخصي أو المصلحة الفردية،وأن يكون رائده خدمة قومية أو انسانية أو مصلحة عامة ،لأن التوجيه نحو الحق والخير ،هو اكسير الحياة في المقال الرئيسي ،وهو العقد الرائع الذي تستطيع الصحيفة ان تطوق به عنقها وتفاخر أترابها”.

وفي فصل “الصحافة والتجارة”,يرفض المقدسي التجارة ونقيضها فيقول ما حرفيته:”فكما ان الصحافة ليست تجارة ،فهي ليست مجموعة من المثل العليا غايتها التحليق في أجواء الخيالات البعيدة.انما الصحافة اليومية لها أصول تغلغلت في أعماق المدنية الانسانية،وهذه الاصول ترتكز الى خدمة الحق أينما كان،والى الدفاع عن الحرية ضمن نطاق النظام الاجتماعي القائم..لذلك ليس عارا على الجريدة ان تربح وتثري ،وانما العار ان تثري الجريدة بالتنكب عن الطرق الأخلاقية القويمة والمثل الانسانية العليا”.واذا اتبعت هذا النهج العملي المثالي ،تكون “أقدر جميع المهن على خدمة الحق والخير ورفع الانسانية في سلم الكمال”.

10_المانشيت أداة خداع الصحف الصفراء

ومن أجرأ وأطرف ما ضمنه المقدسي كتابه الفصل المتوج بعنوان “المانشيت”،وهو كتب هذا المصطلح بالعربية والفرنسية la manchette.ويقول عنها ما لم تقله الواشنطن بوست عن محمد بن سلمان :

“هذه المانشيت التي تزنر أعلى الجريدة،تارة بالأحمر وطورا بالأصفر أو بالأسود،فيها الكثير من الخفة والميوعة ،لا تتلاءم مع ميزات الصحافة الراقية التي يجب أن تهدف ،أول ما تهدف اليه،الى الاتزان في مظهرها والى الدقة في تعابيرها والى الرصانة في خلقها والى الغيرة على مصلحة هذا الجمهور الذي وضع ثقته بها،فأقبل على قراءتها،فلا يجوز ان يكافأ بهذا الشكل الارجافي الذي لا يعود عليه الا بالضرر البليغ”.

ويعزز الكاتب نظريته، بان جميع الصحف الصفراء او التابلويد ، تزنر اعلى صفحاتها الاولى بالمانشيتات الملونة،في حين “لا تنشر كبريات الصحف العالمية أي مانشيت تزنر أعلاها”.ولو كنت من طلابه،لشربت حليب السباع،واعترضت جزئيا على رأي أستاذي الكاريزماتيكي،بما يخص الصحف ذات الاوراق غير الصفراء،فأقول بأن الاثارة عبر المانشيت التي تجذب القراء، مشروعة اذا كان الخبر ،الذي يتوج صفحتها الأولى، صادقا.

وفي فصل “الصحفي” يعدد المواصفات التي يجب توفرها ليكون ناجحا،ومنها “الصدق الى الصراحة ،والجرأة الى الرجولة،والنزاهة الى التأدب،وقد ذكرت التأدب لأن الصحفي يتعاطى مهنة غايتها تنوير الرأي العام في شتى النواحي.ومن تفرض عليه مهنته هذا الواجب الخطير،عليه أن يشعر بالمسؤولية ويترفع عن الطعن في كرامات الناس”.

يضيف المؤلف احدى المواصفات، من باب الكماليات لا الضروريات،فيقول :”يحسن بالصحفي ان يتقن لغة أجنبية واحدة على الأقل،الى جانب اتقانه لغته الأصلية..لان هذه المعرفة تساعده على اعطاء الأنباء وأخذها بغير لغته عندما تفرض الضرورة عليه ذلك،فقد يضطر لأن يعقد حديثا مع شخصية سياسية أجنبية،وفي حالة كهذه يفترض عليه أن يحدث تلك الشخصية باللغة التي تحسنها.واذا كان الصحفي لا يعرف لغة ذلك المرجع السياسي،لا أستطيع أن أتصور ه يستصحب معه ترجمانا،لأنه ان فعل ذلك أصبح فعلا “الصحفي صاحب الجلالة”.
ولو طبقنا رأيه عليه،وهو الذي مارس الصحافة عبر المقالة،لجاء حفرا وتنزيلا على لغة صحافة الامس التي كانت تستعمل الزنكوغراف،ليس فقط عبر لغته الجميلة وتحليله العميق ونهجه النهضوي،وعدم تمتعه بموهبة شتم من يخالفه الرأي،بل أيضا بأتقانه، الى جانب لغته الأم ،لغتين أجنبيتين هما الفرنسية والانكليزية.

خاتمة:أول نيسان رأس سنة الصدق الكنعاني

وبعد ،لقد افتتحت المحاضرة باستئذان رهباني.فلأختمها باعتذار من جدي الكنعاني.حين أبلغني الصديق ابو ناصيف_ أفترض أن الشبه بين صافيتا وانطلياس يشمل مناداة كل من يحمل اسم الياس بأبي ناصيف _ان موعد محاضرتي في الاول من نيسان،تمنيت لو يكون الموعد في 31 اذار أو 2 نيسان كي يصدقني السامعون.وقبيل الموعد ،قرأت على الفايسبوك ان الاول من نيسان عام 6768 كان راس السنة السورية قبل أن يأمر ملك فرنسا شارل التاسع باعتماد 1كانون الثاني 2019 بدلا منه.لذلك اعتذر من جدنا الأعلى كنعان لجهلي بكنعانية رأس السنة،وأتمنى ان تكونوا قد صدقتم بعض ما قلته لكم.
وشكرا لاصغائكم الطويل وصبركم الجميل.

* محاضرة ألقيت في صافيتا مساء 1 نيسان 2019 في قاعة فندق صافيتا الشام .وفيما كنت كالعادة بصدد اختصارها مقدمة لنشرها،وردتني طلبات من بعض الذين لم يتسن لهم سماعها،ومنهم أنسباء رفيق المقدسي ،لنشرها كاملة.وقد لبيت طلباتهم لسببين أحدهما ان قاعدة الصندويشات الصحفية الفايسبوكية لا تتنافى واستثناءات الوجبات التاريخية الثقافية.


adonis49

adonis49

adonis49

March 2023
M T W T F S S
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
2728293031  

Blog Stats

  • 1,518,730 hits

Enter your email address to subscribe to this blog and receive notifications of new posts by email.adonisbouh@gmail.com

Join 764 other subscribers
%d bloggers like this: